الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

العقار يمرض وقد يموت


يتداول العقاريين والمستثمرين مقولة (العقار يمرض ولا يموت) مقتنعين أن العقار الذي لا يأكل ولا يشرب ما هو إلا حاضنة لأموالهم، تتضاعف قيمتها مع الزمن وفي أسوأ الأحوال ستحافظ على قيمتها ولكنها لا تنخفض ولا تنهار.
ولكن لنتأكد إن كانت هذه المقولة ستبقى تحمل معناها للأبد، لابد لنا من معرفة أسباب انهيار سوق العقار في أمريكا وبعض دول أوروبا، وهل نحن نسير في نفس الطريق أم لا، ولنشرح ما حصل هناك بشكل علمي وواقعي متسلسل:
كانت الأمور تسير بشكل طبيعي وسلس جداً، وأطراف اللعبة كانوا ثلاثة: "صاحب العقار" الذي يريد بيع عقاره، و "المشتري" الراغب في شراء العقار، و "البنك" الذي سوف يمول عملية الشراء.
استمرت العجلة في الدوران، وحقق كل منهم هدفه، ولكن الرغبة في الربح بشكل أكبر دفع الجميع للتوسع والرغبة في الاستفادة بأقصى درجة، فتضخمت الثلاث المهلكات على أي اقتصاد (الجشع، الاستغلال، سوء الإدارة).
1. جشع البنوك دفعها لإقراض شرائح من العملاء لا يملكون الملاءة المالية الكافية على تحمل الأقساط وذلك رغبة منهم في الحصول على أكبر ربح ممكن متساهلين مع المخاطر المحتملة.
2. سوء إدارة العملاء (راغبي التملك) لميزانياتهم، دفعهم لشراء عقارات لا تتماشى مع قدرتهم الحقيقية على السداد.
3. استغلال المضاربين وشركات التأمين للوضع، ودخولهم بشكل احترافي عالي جداً في اللعبة، وطرحهم منتجات استثماريه معقدة مبنية على القروض العقارية.
عندما أرادت البنوك المزيد من الأموال لكي تتمكن من إقراض المزيد من العملاء وعندما بدأت تظهر بوادر احتمالية عدم قدرة العملاء على السداد، قامت ببيع هذه القروض العقارية بنسب أقل على شركات أخرى للتخلص منها والحصول على السيولة الفورية، لتمويل المزيد من هذه العمليات.
كمثال: أنت عميل مقترض من بنك A لشراء منزل بمبلغ ,000200$ دولار وبنسبة ربح 5% و تقوم بالسداد له بانتظام نهاية كل شهر. ولكن في الكواليس بنك A قام ببيع هذا القرض للشركة الاستثمارية B بسعر 3%. فعندما تقوم أنت بالسداد للبنك A فإن المبلغ في الحقيقة يذهب مباشرة للشركة الاستثمارية B.
هذه الشركات الاستثمارية قامت بإعادة صياغة هذه القروض وبيعها على شكل منتجات "استثمارية" بعوائد عالية في الربح. وبالتأكيد أن المشتري لهذه المنتجات الاستثمارية يعلم أنها تحتوي على مستوى من الخطورة ولكنه يقدم على شرائها وذلك لأنها مدعومة بعقارات (أي أصول) في أسوء حالاتها "تمرض ولكنها لا تموت".
ولإعطاء العملية ثقة أكبر قامت هذه الشركات بالتأمين على هذه القروض لدى أكبر شركات التأمين في العالم، بحيث لو تعثر العملاء عن السداد، تقوم شركات التأمين بسداد قيمة المتبقي من القرض كاملاً.
وعلى هذا الحال، استمرت العجلة في الدوران في غاية الإتقان. وهي عبارة عن قروض تباع والعملاء يسددون والعقار مرهون للبنك و فوق ذلك (القرض) مؤمن من شركات التأمين التي سوف تقوم بالسداد في حال التعثر.
عاشت أمريكا والغرب أجمل سنوات الرخاء بهذا النموذج، البنوك تربح والعملاء يشترون المنازل الفاخرة وشركات الاستثمار تربح المال وتوزعه على عملائها وذلك طالما مستثمر العقار يدفع الأقساط آخر الشهر فهذا الأخير هو وقود العملية وأهم عنصر لاستمرار العجلة في الدوران.
في تلك الأثناء كانت هنالك فقاعه تتكون ولا أحد توقع حدوثها وأنها سوف تنفجر في لحظة، فالنموذج يعمل بكل إتقان ولا يتجرأ أحد أن يشكك فيها، فانهياره ربما يعني انهيار النظام الاقتصادي كاملاً.
ولكن (الجشع، الاستغلال، وسوء إدارة المشترين) عجل في الانهيار، فالبنوك أصبحت تقرض حتى من توقعت تعثره وأقرضت غير القادر على السداد ومن لا يملكون حتى الدفعة الأولى، كما أقرضت المتعثرين لدى بنوك أخرى، واستمرت تقرضهم و "تقرض" الاقتصاد تدريجيا كالفأر.
وفجأة توقفت العجلة عن الدوران، حينما أعلن كثيرٌ من المشترين بكل صراحة، أننا لا نستطيع دفع أقساط هذه القروض للبنوك، فالقسط فوق طاقتي والأرباح عالية والمنزل في الأساس كبير وفوق احتياجي وأنا بالكاد أسدد التزامات الحياة من مأكل ومشرب وعلاج وتعليم. وقام بإرجاع مفتاح المنزل للبنك!.
وحصل الانفجار العظيم ،،، وذلك بازدياد عدد المتعثرين الذين أعادوا مفاتيح منازلهم للبنوك، والبنوك لا تريد العقارات بل المال، فقامت البنوك مباشرة بإخلاء العقارات المتعثرة وبيعها بأقل من قيمتها الدفترية بكثير (نظرا لعدم وجود مشترين) للحصول على النقد. واستمرت أسعار العقارات في الانهيار مما قاد سوق العقارات لحالة الموت الإكلينيكي.
ولكن لا ننسى أن هذه العقارات مؤمنه كما أسلفنا سابقاً فالبنوك وضعت في اعتبارها هذا الاحتمال. وما حصل أن شركات التأمين قامت بتعويض البنوك عن الخسائر الناتجة عن فرق السعر عندما باعت العقارات بخسارة.
ولكن المفاجأة التي لم تكن في الحسبان هي أن الموضوع تأزم وتفجر بشكل كبير جداً وبسرعة خارقة بحيث أن شركات التأمين العملاقة لم تعد قادرة على تعويض البنوك وسرعان ما أعلنت إفلاسها هي أيضا.
وحتى تتضح الصورة أكثر، ماذا يعني أن تفلس شركات التأمين؟
إفلاسها يعني انهيارها وانهيار البنوك وانهيار شركات الاستثمار وربما انهيار الاقتصاد العالمي بشكله القائم. وأكبر دليل على ذلك هو إنهيار بنك "ليمان برذرز" Lehman Brothers العملاق و إعلان إفلاسه، في وقت كانت أصوله تبلغ 691 مليار دولار. ومن بعده إنهار "واشنطن ميوتول"Washington Mutual والذي تجاوز عدد موظفيه يومها 42,000 موظف، ثم كادت أن تلحق بهما أكبر شركة تأمين في العالم "المجموعة الدولية الأمريكية" AIG والتي لديها أكثر من 100,000 موظف، لولا تدخل الحكومة الأمريكية في سبتمبر 2008 وضخ قرابة 150 مليار دولار للسيطرة على الشركة وتعيين رئيس تنفيذي ورئيس لمجلس الإدارة جديدين.
بكل تأكيد سارعت الحكومة الأمريكية بالتدخل المباشر وضخ الأموال بنفسها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبناهية عام 2008 كان الكونجرس الأمريكي قد وافق على ضخ ما يقارب من 5.6 تريليون دولار لإنقاذ البلد.
العواقب كانت وخيمة على أكبر اقتصاد في العالم، وخلال أقل من سنتين خسر الأمريكيين أكثر من ربع ثرواتهم، وانخفضت مؤشرات الأسهم بأكثر من 45%، وانخفضت أسعار العقار في العديد من المدن بنسبة 35% وصناديق التقاعد انخفضت قيمتها بأكثر من 20%، ومازالت أمريكا تعاني ليومنا هذا من تبعات الأزمة حيث تجاوز الدين العام حاجز 16 تريليون دولار لأول مره في تاريخ الدولة، و نسبة البطالة قاربت من 9%.
بدون شك أن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم، ولكن التعافي لن يكون بالأمر السهل، خصوصا أن معظم اقتصادات العالم مرتبطة بشكل مباشر بالاقتصاد الأمريكي ولا ننسى أن الصين واليابان ودول الخليج والاتحاد الأوروبي هم أكبر الدائنين لأمريكا، فمصلحتهم تكمن في تعافي الاقتصاد الأميركي لكي يمتلك القدرة على السداد والوفاء بهذه الديون. وبالأخص الصين، فالسوق الأمريكي هو أكبر سوق مستهلك لمنتجاتها، فيهمها بالتأكيد تعافي هذا الزبون المهم.
ما يهمنا، هو ما هي عواقب حصول الأمر نفسه في بلدنا؟
كارثة كهذه وبهذا الحجم ربما لن نتعافى منها لو حصلت لدينا. لذلك ونحن مقبلين على مرحلة جديدة في سوق العقار السعودي، خاصة بعد إقرار نظام الرهن العقاري وتوجه الدولة في هذا المجال، يجب أخذ أكبر درجات الحيطة والحذر من البداية وحماية المواطنين مما هم مقبلين عليه. فحماية ثروات المواطنين وممتلكاتهم يجب أن توضع فوق كل اعتبار، خاصة وأن حجم التمويل العقاري في السعودية اليوم لا يتجاوز 11.5 (مليار دولار) وذلك مقارنه بأكثر من 11.3 (تريليون دولار) في أمريكا عام 2008.
بعد سرد المثال الأمريكي وتوضيح ما آلت إلية الأمور، اتضح أن (العقار يمرض وقد يموت) لذلك دعونا نذكر أهم النقاط والتي يجب أن نقوم بتطبيقها لتجنب حدوث كارثة مشابه لدينا.
1. التأكد من تطبيق سياسة الإقراض النقدي بشكل صارم وبدون تساهل.
مؤسسة النقد السعودي تلعب دور أساسي في هذا الموضوع وهي من أكثر البنوك المركزية في العالم صرامة وحزماً في تطبيق السياسات والإجراءات. ويجب أن يظل الوضع كما هو عليه وأن يظل للبنك المركزي اليد العليا.
2. عدم الإقراض المفرط وغير المسؤول، وعدم التهاون في نسبة الاستقطاع
البنوك تريد أن تقرض وتمول بدون توقف والعميل يريد أن يقترض ويستدين بدون تفكير في المستقبل وفي مقدرته على السداد. لذلك يجب أن يتم ذلك بالطريقة العلمية والمالية السليمة والتي تضمن للجميع حقوقه. كما يجب عدم التهاون في نسبة الاستقطاع ورفعها بشكل مبالغ فيه، وأن لا ينقاد المقترض خلف "منزل الأحلام" فالمقترض يعيش على أرض الواقع ولديه التزامات أخرى مثل أقساط السيارة وفواتير الاتصالات ومصاريف المأكل والمشرب وغيرها الكثير.
3. عدم التساهل في الدفعة الأولى.
الدفعة الأولى من أهم ضمانات التمويل العقاري، وهي إثبات مهم لملاءة العميل المالية وجديته للاستمرار في التمويل، وفيها ضمان للبنك وحماية عند تعثر العميل.
4. مشاكل التقييم والتثمين العقاري
البنك حريص جداً بأن لا يقوم بشراء عقار مبالغ في سعره لأنه سوف يتحمل فرق أي خسارة عنده بيعه في حال لم يتمكن العميل من مواصلة السداد. لذلك نجد البنوك حريصة جداً على تقييم العقار بالشكل الصحيح. ولكن ما يزال نظام وطريقة التقييم وإدارتها لا تدار بشكل احترافي في السعودية مما يستوجب تنظيمها بطريقة أكثر رسمية.
5. السجل الائتماني
يجب أن يتم الاستمرار في ربط منح التمويل بالسجل الائتماني للعميل. ولا ينبغي المخاطرة مع عملاء واضح من سجلهم الائتماني التعثر المستمر وعدم القدرة على السداد.
بالتأكيد نظام الرهن العقاري سوف يساهم في زيادة الإقراض، فالبنوك سوف تكون أكثر إقداماً على التمويل لأن وجود نظام وقانون هو الأساس في حماية الحقوق وتقليل المخاطر و نظام الرهن العقاري يعتبر خطوة مهمة في تنظيم المسألة وهو اللبنة الأساسية لحل أزمة الإسكان في السعودية ولكن يجب أن تتبعه خطوات أخرى لا تقل أهمية عن هذا القانون. فالرهن العقاري سوف يزيد من السيولة و سوف يؤهل شريحة أكبر من المواطنين لتملك مسكن. وسوف يوفر سيولة أكبر للمطورين العقاريين لبناء المزيد من الوحدات، ولكن في المقابل لن يحد من إرتفاع الأسعار وربما يزيدها بسبب الارتفاع المتوقع على الطلب.
فمشاكل الارتفاع في أسعار العقار بحاجة لحلول إضافية أخرى مثل: 1. فرض الزكاة على الأراضي البيضاء، 2. تحديد نسبة التملك، 3. الاستمرار في عرض وتأهيل المزيد من المخططات، 4. السماح بأنظمة البناء الحديثة والأقل تكلفة، 5. المزيد من مشاريع الإسكان.
وجود النموذج الأمريكي أمامنا و اكتمال دورته الاقتصادية هو درس مجاني يجب أن تستفيد منه بشكل إيجابي وأن نتعلم منه ونطوره بما يتلاءم مع أنظمتنا، لأن تكرار التجربة بدون تفادي الأغلاط سوف يكون مكلف جداً ولنتذكر أن سوق العقار السعودي ناشئ ولدية العديد من المميزات و لكن يجب أن تستغل بالشكل الصحيح لضمان نجاح المشروع العقاري وتوفير حياة كريمة للمواطن.

بقلم: فارس هاني التركي

رابط المقال في جريدة الاقتصادية: